ببساطة، فيلم The Irishman هو التجسيد الحقيقي للسينما كما يجب أن تكون. صناعة السينما هي الصناعة التي تُعطيك حالة شعورية جديدة لم تعهدها من قبل، وفي كل فيلم، تتعامل مع حالة مختلفة. في الآونة الأخيرة، باتت الحالات الشعورية المُقدمة على الشاشة ينقصها عنصر ما.. أجل، أجل، أنت تعرفه، لكن لا تريد الاعتراف به. دعني أرفع من عليك الحرج، وأخبرك أنا. هذا العنصر هو: الأصالة.
هذا الفيلم يمتاز بالأصالة. الأصالة تتجسد في الاهتمام بأدق التفاصيل، والعودة إلى زمن كانت فيه السينما تأخذ الصورة الكاملة لها. حيث أن الفئة التي يندرج أسفلها هذا الفيلم (والتي يرى المخرج أنها السينما الفعلية)، لا تتسق مع الفئات الفنية الحديثة. من المعروف عن المخرج قوله: "I don't do genera" – أو: "أنا لا أتبع التصنيفات".
مقال اليوم سوف يكون مراجعة فيلم The Irishman بنفس العناصر المعتادة، لكن مع شيء هام جدًا: الدخول حتى العمق في كلٍ منها، كي نُبرز الأصالة الفنية التي فيها. كفانا تمهيدًا لملحمة اليوم، وهيا نبدأ!
*المراجعة خالية من الحرق*
قصة فيلم The Irishman
قصة فيلم The Irishman تتحدث عن الشخص الذي يطلي المنازل، أو بمعنى أصح: يصبغ المنازل.
طلي المنازل أو صباغتها، عبارة تحمل تورية مهولة جدًا. التورية نقصد بها وجود معنى قريب للجملة، وآخر بعيد لا يُفهم بشكلٍ مباشر. المعنى القريب هو طلي المنازل بالطلاء الطبيعي، والمعنى البعيد هو طليها بالدماء. وتبدأ القصة مع السيد (فرانك شيرين)، المختص بطلي المنازل، وأيضًا القيام بأعمال نجارتها بنفسه.
طلاء المنازل يعني قتل الأشخاص، والقيام بأعمال النجارة يعني التخلص من أداة الجريمة، بدلًا من أن يقوم بها شخص آخر. مما يجعل (فرانك) أداة هامة في إتمام العديد من مهام المافيا، بعيدًا عن أعين الشرطة والجهات الأمنية للبلاد. صيت البطل جعل اسمه يصل إلى مسامع أحد الشخصيات التي ستكون محورية في حياته، السيد (راسل بافالينو). والذي بدوره عرفه على سياسي شهير يُدعى (جيمي هوفا). الآن لدينا ثلاثي يدفع أحداث القصة للأمام، الآن لدينا قصة يا سادة!
نتتبع سويًّا التداخلات الحياتية التي تجمع الثلاث شخصيّات سويًّا، في ظل وجود أجواء متوترة سياسيًّا في البلاد. والتي بدورها ستؤثر على أعمال المافيا مُجملًا. الفيلم يحكي قصة رجل العصابات واسترجاعه لذكرياته وروايتها على لسانه، لن تجد هنا كائنات فضائية، حرب عصابات تُنثر فيها قطرات الدماء دون هدف، أو حتى أكشن من الذي يقدمه (جون ويك) هذه الأيام. هنا نحن أمام السينما، ولا شيء سواها.
انطباع عن القصة
عندما أتحدث عن قصة فيلم فيلم The Irishman الرائع؛ فأنا بالتأكيد أتحدث عن السيناريو. السيناريو هنا مكتوب بطريقة تجعل الفيلم مُقسمًا إلى ثلاث طبقات.
- الطبقة الأولى: تسمح لك بتكوين نظرة عامة عن الشخصيات، وتُعطيك فكرة عن مواضعها في القصة.
- الطبقة الثانية: تُدخلك في مرحلة تشابك خيوط حيَوات تلك الشخصيات، وكيف لها أن تبدأ في التأثير على بعضها البعض بطريقة تدفع القصة للأمام.
- الطبقة الثالثة: تُريك نتيجة أفعال الشخصيات خلال الأحداث. تلك الطبقة تهتم بالتبعات، لا بالمُسببات. لذلك بالنسبة لي، هي الطبقة التي تحوي الهدف الفعلي من الفيلم. هذا الفيلم ليس فيلم قصة وشخصيات وأحداث، هذا الفيلم هو فيلم "فلسفة التبعات". كيف للفعل أن يؤثر في كل شيء من حول فاعله، وكيف لفاعله أن يتأثر مرة أخرى برد الفعل.
الذي ستقوله هنا بالطبع: "أنت مُخطئ يا سامي، طبقات؟ يا راجل، إنها مراحل!". حسنًا، ستكون مُحقًا إذا كان الفيلم يمشي في خط زمني ثابت، لكن هنا تأتي المفاجأة: الفيلم متداخل. لذلك لا يجب أن نقول أنها مراحل، ولا خيوط زمنية، بل هي طبقات. وهذا لكون كل طبقة تحوي أكثر من خط زمني. يمكن أن تجد الطبقة الأولى في الأبطال وهم صغار مرة، وهم كبار مرة أخرى، وحتى وهم عجزة. يمكن أن تُكوِّن نظرة شاملة "جديدة" في كل مرة تشاهد فيها الشخصية وهي في شريحة عمرية مختلفة عن السابق.
لذلك عندما قلت "طبقة"، فأنا بالفعل أقصد طبقة و Layer كاملة تتحدث عن (رؤية الشخصيات) تارة، و(تشابك الشخصيات) تارة، و(تأقلم الشخصيات) تارة. يمكنك أن تلمس تأثير الطبقات الثلاثة على مدار أحداث الفيلم. وصدقني، عندما تشاهد الفيلم بمنظور الطبقات، ستجد أن السيناريو أخذ كل طبقة منهم إلى أقصى درجاتها، وقدمها لك كوجبة دسمة لاذعة المذاق. وفي النهاية لدينا مشهد ختامي واحد قصير، قدر على تكوين تلك الرؤية المزجية بين الطبقات الثلاثة، وفعلًا ستعشق تلك النهاية ذات البُعد الفلسفي، والذي يتسق مع فلسفة الفيلم ككل: فلسفة التبعات.
أقرأ أيضًا: مارتن سكورسيزي يصرح The Irishman لم يكن يصلح كمسلسل تلفزيوني نهائيًا
الشخصيات والبناء في فيلم The Irishman
عندما أتحدث عن شخصيات فيلم The Irishman الجديد، يجب أن أتحدث عن أنها بالفعل مأخوذة عن رواية، والرواية مأخوذة عن الواقع (كما قيل في الرواية)، لذلك عندما قام كاتب السيناريو بصياغة الشخصيات بأسلوبه الخاص، كان لديه مصدران لتكوين رؤية شاملة قبل الكتابة والشروع في البناء. هذا كان تأثيرًا مبهرًا فعلًا، لماذا؟ لكوني رأيت الشخصيات لا تنقصها ناقصة. كل شخصية لها أبعاد بدأت معها بطريقة، وانتهت معها بطريقة أخرى تمامًا.
البناء كان ممتازًا، الدوافع والأفعال وردود الأفعال كلها منطقية وتخضع لعالم المافيا والجريمة في تلك الفترة الزمنية، كما أن مطابقة الشخصيات لتفاصيلها الحقيقية كان مدهشًا. هنا أنا أتحدث بمنظور السيناريو، لا التمثيل. مثلًا شخصية (جيمي هوفا) تفاصيلها الواقعية تُثبت أنه رجل سياسي مُحنك، محبوب من الجميع، لكنه انفعالي بعض الشيء. وهذا ظهر في السيناريو إذا تتبعته جيدًا منذ لحظة ظهوره، وحتى نهاية الفيلم.
التمثيل
حسنًا.. حسنًا.. حسنًا.. فلنأخذ الأمور بروية بداية من هنا.. بداية من هنا، سينتقل فيلم The Irishman إلى مستوى آخر تمامًا!
الفيلم به وجوه كثيرة، أغلبها نحبه بشدة وعاهدناه كثيرًا في صناعة السينما، وأخرى ربما نراها لأول مرة. لكن في الواقع، كان التمثيل احترافيًّا من قبل كل فرد في طاقم التمثيل فعلًا، وهذا حقيقيّ، وأنا لا أبالغ. بالرغم من طول الفيلم (ثلاث ساعات ونصف)، لم أشعر بالملل أبدًا، وذلك يرجع لعنصر التمثيل الذي جعل المشهد يذهب خلف الآخر بسلاسة شديدة، أجل ساعده الإخراج، لكن للتمثيل نصيب الأسد من تلك الكعكة.
هنا لن أتحدث عن أداء (ألباتشينو) المعهود، ولا عن أداء (دينيرو) الذي تعودنا عليه، المميز هنا هو أداء (جو بيشي). هذا الرجل قال أنه اعتزل، وأراد أن يلعب الغولف حتى نهاية عمره. لكنه عاد من أجل هذا الفيلم. في البداية كان مترددًا، لكن عندما أتى اسم (نيتفليكس)، وافق على العودة للساحة. من المعروف أن أفلام العصابات، وخصوصًا تلك التي تعتمد على الأصالة والكلاسيكية في التصوير، إذا لم تمولها شركة كبيرة، سيكون الفيلم عبارة عن لوحة فنية ذات إطار ذهبي، لكنها فارغة تمامًا. ولهذا وافق (جو بيشي) على الانضمام لطاقم العمل، وذلك على لسان المخرج في مقابلته مع (جيمي كيميل).
وبالرغم من مرور كل تلك السنين، أدى (جو بيشي) شخصيته ببراعة شديدة، والكاريزما الطاغية التي افتتح بها دخول الشخصية في الأحداث، جعلتني أعجب بها من الجملة الأولى.
في هذه النقطة يجب أن آتي على ذكر تقنية تصغير السن – De-aging، والتي تعمل على تقليل التجاعيد وعلامات تقدم السن من على الوجوه، كي تبدو أصغر سنًا. وهذا يرجع لكون طاقم العمل طاعنًا في السن بالفعل، بينما جزء لا يستهان به من الفيلم من المفترض أن يكون قد حدث وهم صغار. وهنا أثبتت (نيتفليكس) ولاءها للفيلم وللفكرة، وأنفقت الكثير على الـ CGI الخاص بتلك التقنية، وبالفعل أثبتت نجاحًا باهرًا، وصعدت بالتقنية إلى مستوى آخر تمامًا، وكانت أحد أسباب نجاح الفيلم بدرجة كبيرة.
الإخراج العبقري في فيلم The Irishman
الآن سأتحدث عن أبرز شيء في فيلم The Irishman العزيز: الإخراج!
المخرج هنا هو العبقري (مارتن سكورسيزي)، له أعمال كثيرة سابقة، ربما تعتقد أن أعماله كلها تدور حول العصابات والحقبة الكلاسيكية وما إلى ذلك، لكنه كان مخرج فيلم Hugo الذي يحمل لمسة فنية محببة للجميع، وتعتمد على المرح والكوميديا بدرجة كبيرة. فالذي يجد أنه أخرج هذا، من الصعب أن يصدق أنه أخرج ذاك؛ ولهذا (مارتن) مخرج ممتاز، حيث يعرف كيف يرتدي الحالة الشعورية التي يُريد إيصالها للمشاهد، ويعمل على تحقيقها بكل احترافية ممكنة.
من ضمن فنيّات إخراجية كثيرة، اخترت أبرز واحدة: "هذا الرجل لا يقطع الوجوه كثيرًا".
ربما هذا أفضل شيء ميّز هذا الفيلم، عدم قطع الوجوه يجعل هناك مساحة كبيرة لإدخال عناصر كثيرة في المشهد بجانب الشخصية الرئيسية. ولذلك نجد أغلب المشاهد تحتوي على أكثر من شخص، مما يساعد على زيادة أريحية المُشاهد مع المشهد المعروض. وليس هذا فحسب، إذا كانت لدينا أكثر من شخصية بداخل نفس الإطار، يعمد المخرج إلى استخدام عدد قليل من النقلات القريبة على الوجوه أثناء حديثها، ويحاول بقدر الإمكان تصوير مشهد واسع تظهر فيه كل الشخصيات وهي تتحدث. هذا يميز أسلوب (سكورسيزي) في الإخراج، وهذا ما جعل السيناريو يستطيع استعراض عضلاته أمام الكاميرا، عن طريق استعراض الممثل لتعابير وجهه بالكامل دون قطع.
الموسيقى
أنا أكتب لكم هذا المقال الآن وأنا أستمع إلى أغنية The Five Satins – In the Still of the Night، والتي افتتحت الفيلم بطريقة مميزة، واستمرت خلال الأحداث لتكون أغنية أيقونية له. الأغنية رائعة فعلًا، وتتماشى مع أجواء الفيلم.
لكن في وجهة نظري، أفضل مقطع موسيقي في الفيلم كله كان Jean Wetzel – Le Grisbi (والذي تجدونه بالأعلى). هذا المقطع ينتمي إلى عالم ثلاثية The Godfather بدرجة كبيرة، وخصوصًا من الثانية 00:11. فعلًا الاستماع إليه مثل الاستماع إلى مقطوعة من الجنة، والمشهد الذي عُرضت فيه بالخلفية، كان الرفيق الأمثل لها.
وفي الختام
فيلم The Irishman ليس فيلم الجميع، هذا الفيلم لن يتذوقه إلا بعض الأشخاص فقط. شريحة المشاهدين هذه الأيام تحب أفلام الأكشن التي بها دماء كثيرة ورصاصات أكثر، وتعشق أفلام الأبطال الخارقين الذي يلوحون بقدراتهم في كل مكان. لكن لا، هذا الفيلم يتحدث عن بشر عاديين، يموتون برصاصة واحدة. بشر يقترفون الأخطاء، ويندمون عليها. بشر تستطيع أن تُحللهم، ويمكنك أن تستشف إذا كانوا مذنبين واعترفوا ضمنيًّا، أم مذنبين وكبرياؤهم لا يسمح بالاعتراف. هل الذي بدر منهم مجرد ندم دون اعتراف بالذنب؟ أم ندم ناتج عن اعتراف؟
فيلم عن فلسفة الندم، فيلم عن فلسفة الحياة، وفيلم معه ستفكر كثيرًا، وتندم أكثر. بالتأكيد، فيلم The Irishman هو واحد من أفضل أفلام 2019، إذا لم يكن من أفضل أفلام الألفية الجديدة حصرًا. وأنا شخصيًّا سعيد أنني حيّ في الزمن الذي عُرض فيه، وكان لي شرف كتابة هذه المراجعة عنه، بالرغم من كوني أرى أنها لم تعطه حقه بالكامل.
http://shorl.com/mubodolohisi